وهم الحضارة


منذر ابو حلتم





كان مندفعاً ذلك الشاب .. ومتحدياً حين تقدم الي اثناء خروجي من ندوة اقامتها رابطة الكتاب الاردنيين ، قال لي : وكأنه يكمل حديثاً : انا اعرف طريقة تجعلني مواطناً في دولة متحضرة وقوية وكلمتها مسموعة في كل مكان وتوفر لي الحرية والعدالة والكرامة ..
نظرت اليه متسائلاً .. تأملت ملامحه العصبية .. وكنت قد وصلت الى سيارتي .. فسألته عن وجهته .. فأجاب انه ذاهب الى وسط المدينة .. دعوته الى الركوب بجانبي .. ابتسمت له وسألته :- وما هي هذه الطريقة السحرية يا صديقي ؟
اجاب بلا تردد :-ان احصل على الجنسية الامريكية ..!
    ضحكت فجأة .. لكنني توقفت معتذراً حين وجدت الشاب جادا تماماً .. فتابع :- اليس هذا هو الواقع ؟ اليست امريكا هي الدولة الاعظم والاقوى والاغنى والاكثر حضارة ؟ الا يعني حصولي على جنسيتها حصولي على كل امتيازات مواطني هذه الدولة ؟
    نظرت اليه .. كان شابا في منتصف العشرينات .. جامعي عاطل عن العمل ..!
    قلت له :- ما هو تعريف الحضارة برأيك ؟
    قال : - هي القوة والتفوق العلمي والتقدم الاقتصادي والحرية والديمقراطية .. وامريكا تمتلك كل هذا !
    انتهزت فرصة توقف السيارة عند اشارة المرور لتهدئة نفسي ..وقلت له :- الحضارة كلمة كبيرة جدا .. وهي لا تعني فقط القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية …الحضارة تقاس ايضا بما تقدمه امة ما او شعب ما للانسانية ولتطور الانسانية وهي ايضا تقاس بمدى الرقي الروحي والاخلاقي ..
قاطعني بعصبية : هذه شعارات العاجزين ..!
قلت :- حسناً .. لنعد الى امريكا يا صديقي .. هل تعرف ان اكبر نسبة لانتشار الامية هي في الولايات المتحدة الامريكية ؟ وهل تعرف ان اكبر نسبة لانتشار الجريمة المنظمة والمخدرات ونسب الانتحار هي في الولايات المتحدة ؟ وان اكبر نسبة من المشردين الذين ينامون على الارصفه هي في الولايات المتحده ! .. وهل تعلم ان ما نسبته 55 % من الجامعيين الامريكيين لا يعرفون حدود بلادهم الجغرافية ولا موقع دولتهم الجغرافي بين دول العالم ؟ ..وهل تعلم ان الزنوج والملونين في امريكا يعانون من التمييز العنصري ويعيشون في مدن واحياء خاصة بهم …
قاطعني الشاب قائلا: هناك توجد ديمقراطية وحرية ..!
قلت :- نعم .. ولكن ديمقراطية من ؟ وحرية من ؟ ..لااريد ان احدثك عن غزو الولايات المتحده لغيرها من الشعوب .. وانتهاكها لكل مواثيق الامم المتحده وحقوق الانسان .. اريد ان احدثك عن المجتمع الامريكي نفسه … الحرية هناك ليست للجميع .. هي لمن يمتلك راس المال الصناعي .. هي حرية لطبقة محدده تمتلك كل شيء وتدير كل شيء .. وتفصل الديمقراطية وتصنعها حسب مصالحها .. وهم يريدون من الشعوب بما فيها شعبهم ان يرى امريكا غير امريكا الحقيقية .. امريكا هوليودية تصور لنا الوجه الزائف الوهمي لامريكا .. وللنموذج الامريكي المثالي والسوبر والقوي والحر …بينما الواقع شيء اخر تماماً !
ولنعد الى الحضارة يا صديقي
اليست الولايات المتحده هي من اطلق اول قنبلة ذرية ليبيد مدينة يابانية كاملة ؟ ولم تتردد بعد يوم واحد فقط من تفجير قنبلة اخرى لتبيد مدينة ثانيه ؟ هذه حضارتهم وهذه رسالتهم .. قوة استعمارية عمياء لا ترى شيئا سوى مصلحة فئة قليلة تحكم هناك وتمتلك كل شيئ !
كنا قد وصلنا الى وسط المدينة .. نظرت الى وجه الشاب ، كان ينظر نظرة فارغة الى شوارع المدينة المزدحمة ..
شعرت بالحزن .. وضعت يدي على كتفه وقلت باسما :- هل ساراك ثانية ؟
نظر الي نظرة لم افهما وقال :- لا ادري … ربما !
وخرج مسرعاً .. وغاب في زحمة المدينة ..!