للكاتب قضيته الكبرى .. ومن يكتب لأجل الكتابة فقط مهرج كبير .... حوار صحيفة القبس الكويتية مع منذر ابو حلتم




أجرى اللقاء: مؤيد أبو صبيح



صدر لك مجموعة شعرية "أراك مرفئي الأخير" وأخرى قصصية "للبحر وجه آخر"، ولك كتابات للأطفال، فلماذا التنقل بين الأجناس الأدبية؟
ما يصدر عن الكاتب هو نتاج تفاعله الداخلي مع كل ما في العالم من تناقضات وأحداث؛ هو ذلك الدخان والنور المنبعث من احتراقه الداخلي. قد يأخذ هذا الاحتراق شكل القصيدة أو القصة، أو حكاية الأطفال أو الأنشودة، أو اللوحة الفنية، أو المقطوعة الموسيقية. لا فرق هناك، فالاحتراق واحد، وربما يختلف لون الضوء قليلا، لكن الأصل واحد. أنا لا أرى فرقاً كبيراً بين أن اكتب قصيدة أو قصة. ولا أؤمن بالتخصص الأدبي؛ بمعنى أن يضع الكاتب حدودا لقلمه فلا يقترف الشاعر كتابة القصة، ولا يجرؤ القاص على ممارسة جنون القصيدة. العمل الإبداعي عمل متكامل، وإذا امتلك الكاتب أدوات القصة والقصيدة، فمن حقه أن يمدّ أشرعته في كل البحار دونما حدود.
حين يسكنني موج القصيدة، أجدني قلقاً عصبياً وكأنني أمرّ في حالة من المخاض المؤلم الذي لا ينتهي إلا بولادة القصيدة. وحين يسكنني هاجس السرد واحتاج إلى إعادة صياغة الواقع، وحين تتداخل الرؤى وتثور في روحي عوالم تريد الظهور حاملة رؤيتي الخاصة للحياة، فأنا لا أملك إلا أن ارسمها بشراًً ومدناً وأحداثا، فتولد القصة. ولأن القصة عندي حياة حقيقية أعيشها بكل ما فيها من فرح أو حزن أو تناقضات، يهمني جداً، كوني قاص، أن أغوص في البعدين الزماني والمكاني لأحداث القصة؛ لأن القصة جزء مني ومن تجربتي الحياتية، و بالتالي، فهي تشكل جزءاً من ذاكرتي. ولهذا فالزمان والمكان عاملان زئبقيان في قصصي. ومعظم قصصي تدور أحداثها في عدة أزمنة متداخلة، وأعطي لها حرية الحركة في الأبعاد كافة.
أما عن الطفولة والكتابة للأطفال فأنا أرى أن الكتابة للطفولة أصعب كثيرا من الكتابة للكبار؛ لأنك حين تكتب للطفل يجب أن ترتقي بحواسك وعواطفك لمستوى الطفولة بكل ما فيها من براءة ونقاء، دون أن تنسى فكرك الخاص الذي يجب أن تعيد تلوينه بقالب طفولي يتقبله الطفل ولا ينفر منه. ويجب أن نفطن دائما لقضية هامة وهي أن الطفل أذكى كثيرا مما يتصور بعض الكتاب، ومن الجريمة أن يتعامل الكاتب مع الطفل وكأنه متخلف عقلي، أو مجرد آلة جاهزة لحقن المعلومات. بالنسبة إلي، حين اكتب للأطفال، لا أنسى أبدا أنني أتعامل مع جيل المستقبل. وهو الجيل الذي سيرث مرغماً كل خيباتنا وهزائمنا. ومن أبسط حقوق هذا الجيل علينا أن نعامله بصدق واحترام
يلحظ القارئ انك تحاول أن تؤسس عالمك القصصي الخاص بك من خلال مناخات القصة التي تمزج فيها العام بالخاص، هل تريد أن تكون علامة فارقة بين أبناء جيلك من القصاصين الأردنيين؟


الأديب لا يمكنه أن يكون محايداً إطلاقاً، ولا بد أن يكون له قضية ما، ومن يكتب للكتابة فقط فهو مهرج يسعى لتسلية الآخرين. ويختلف الأديب عن المؤرخ الذي يصوّر الواقع التاريخي بعين عدسة الكاميرا بكل ما فيها من برود وحياد، فالأديب يعيد صياغة الواقع، ويعيد ترتيبه مازجا إياه بالكثير من روحه وفكره وتجربته الإبداعية. وهو هنا يشبه كثيرا الفنان التشكيلي حين يرسم لوحته فيعطيها الكثير من ظلال روحه ونظرته الخاصة التي تميزه عن غيره من الفنانين.
كل كاتب له عالمه الخاص ولونه الخاص الذي هو محصلة لمجمل تجربته الحياتية والفكرية والثقافية والسياسية أيضا، والتي تتوحد كلها لتعطي ما نسميه بـ "العالم الخاص" للكاتب والذي سيختلف بالضرورة من كاتب لآخر.
أما عن سؤالك فيما إذا كنت أريد أن أكون علامة فارقة بين أبناء جيلي من كتاب القصة، فأنا لا أسعى عامداً لأكون علامة فارقة، فربما كان هذا طموحاً فيه الكثير من نزق الطفولة، لكنه بالتأكيد سيكون طموحاً ساذجاً لأي كاتب حين يقيّم تجربته الإبداعية الخاصة بعين الناقد، معتقداً أنه يشكل علامة ما.
العمل الإبداعي لأي كاتب هو الذي يرسم صورة الكاتب وهو الذي يحدد مدى عمق تجربته وأثرها وتأثيرها في الحركة الأدبية. والنقد الأدبي الحقيقي هو وحده القادر على القيام بهذه المهمة والحكم عليها.
كيف قرأ النقاد تجربتك الإبداعية، وكيف تعاملوا معها، وهل لك أن تصف لنا المشهد الإبداعي الأردني "الحديث"؟


النقد عالم أدبي مستقل، وعلم له أسسه التي أرى أنها أسس مرنة قابلة للتطور باستمرار لاستيعاب كل التجارب الإبداعية. وهنا يبرز سؤال
مبرر وهو من هو الناقد، وهل لشخص ما أو جهة ما أن تعلن احتكارها لناصية الحقيقة في التحليل النقدي؟. أنا أرى أن خيمة النقد تمتد لتشمل رأي القارئ العادي فيما يقرأ، من حيث روح النقد على الأقل.
أما عن رؤية النقاد لتجربتي فقد حظيت العديد من كتاباتي سواء القصصية أو الشعرية بدراسات نقدية ومن نقّاد من دول عربية مختلفة، وأحيانا من كتاب من خارج العالم العربي. واعتقد أن هذا يعود لكوني اعتمد كثيرا على النشر الأدبي الإلكتروني، عبر شبكة الانترنت، مما يمكن كتاباتي من الوصول إلى أبعاد ربما لم تكن لتتاح لي عبر طرق النشر التقليدية. وبصدق حين اقرأ نقدا لكتاباتي فأنا أقرؤه باهتمام كبير وقلق. وأكون مسكوناً بهاجس وحيد هو؛ هل استطعت فعلاُ إيصال ما أريد للقارئ سواء كان هذا القارئ ناقداً أو قارئا عاديا؟. وبصدق أجد معظم ما كُتب عن تجربتي في القصة والشعر مرضيا لهاجسي هذا.
أما عن المشهد الإبداعي الأردني الحديث، فأمر جميل أن تضع كلمة "الحديث" بين قوسين؛ لأن هناك فعلا إبداع شبابي حديث في الأردن. والمشهد الإبداعي الحديث مشهد يتطور باستمرار مستفيدا ومطورا لتجارب إبداعية تستحق الدراسة سواء في مجال القصة أو المسرح أو الشعر أو أدب الأطفال. والمتابع للحركة الثقافية بشكل عام في الأردن يلمس هذا النشاط، والذي قد يبدو مناقضا للوضع العربي بشكل عام. لكنني أقول بثقة أن هناك أدبا حديثا يثبّت أقدامه الآن ليس في الأردن فقط بل في الساحة العربية بشكل عام. ولعل من أبرز سمات هذا الأدب الحديث رفضه للواقع العربي الحالي، والتعبير عن هذا الرفض بأشكال متعددة وملفتة للاهتمام في بعض الأحيان
بعد كل هذا الخراب الذي يعم العالم، هل ما زال وجود للقصة، وهل العرب ما زالوا أمة قصاصة؟



نعم، هناك حالة خراب شاملة وفوضى تسود العالم، لكن يجب أن نتساءل عن سبب هذه الفوضى، فهل جاءت صدفة أو نتيجة لأسباب معينة؟. إذا عدنا للماضي القريب وحاولنا أن نحلل الأحداث، سنجد أن حالة الخراب والفوضى بدأت حين استحوذ قطب وحيد على موازين القوة في عالمنا الحديث؛ واقصد حين انهار الاتحاد السوفييتي باعتباره قوة كانت تشكل حالة التوازن في موازين القوى. وبعد هذا السقوط كان من الطبيعي أن يتبعه سقوط الشكل المعروف للعالم، والذي كان نتيجة توازنات طرأت بعد الحرب العالمية الثانية؛ بمعنى أن هناك إعادة تشكيل للعالم تجري الآن، وكل الخراب والفوضى الذي يجري حاليا عبارة عن ورشة البناء الجديدة للعالم، ولكن أي عالم هذا؟ إنه عالم القوى المنتصرة، وهي بكل وضوح قوى الاستعمار الحديث التي كشفت الآن وجهها الحقيقي البشع. والسؤال هنا، ما دور المبدع العربي؟
بالعودة إلى سؤالك عن دور القصة العربية. أقول نعم، هناك دور مهم جدا للمبدع العربي يفوق أهمية دوره في كل الأوقات الماضية، وهذا الدور هو إنارة الطريق أمام هذا الجيل والأجيال القادمة، هذه الأجيال التي تتخبط الآن محاولة إيجاد مكان لها في عالم لا يزال يتشكّل.
لا أريد أن أخوض في حديث سياسي، لكنني أقول بوضوح أن الأدب بشكل عام سلاح مهم جدا، والقصة هي أحد أشكال هذا السلاح الذي يجب علينا نحن المبدعون أن نحسن استخدامه في ظل ثورة هائلة في وسائل النشر والاتصالات، وما يتبعها من فضائيات، وإنترنت
أنت تشرف على العديد من المنتديات الثقافية الإلكترونية وكذلك ترأس تحرير مجلة أوراق الإلكترونية الثقافية، هل لك أن تحدثنا عن تجربتك في هذا المجال؟


نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، وهو عصر تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات، وعصر أصبح كوكب الأرض فيه يشبه مدينة صغيرة صاخبة، لها لغة عالمية واحدة هي لغة التكنولوجيا. واعتقد أن ظهور شبكة الانترنت، يشكل بحق بداية لعصر جديد تماماً يختلف اختلافاً هائلاً عن ما سبقه من عصور، وتحديدا في مجال التواصل الإنساني وسرعة انتقال المعلومات، وتحييد الحدود الجغرافية وإلغاء الرقابة. كل هذا يضع أمام المبدع ألف سؤال ويفتح أمامه ألف نافذة وباب.
لماذا يكتب الأديب، ألا يكتب ليقرأه الناس، وليوصل إليهم فكره ورؤيته الخاصة في كل ما يجري وسيجري. أنا حين انشر كتابا ورقيا، في أحسن الأحوال قد أتمكن من توزيع ثلاثة إلى خمسة آلاف نسخة من كتابي، وقد يحتاج ذلك مني إلى جهد وزمن كبيرين. في المقابل فإن الإنترنت يتيح لي أن أنشر كتاباتي إلى كل حدود الدنيا، مسقطا حدود الزمان والمكان. وهي إمكانيات كانت خيالا وحلما فيما مضى، واليوم أصبحت واقعا، وعلينا جميعا أن نعرف كيفية الإفادة منه في تطوير تجاربنا الإبداعية. طبعا هناك أمور كثيرة ما زالت بحاجة إلى دراسة ووضع قوانين لها مثل حقوق الملكية الفكرية، وحماية حقوق النشر، وغيرها. لكن بشكل عام فإن الإنترنت يتيح لي أن أنشر أدبي وفكري في كل مكان وهو ما يهمني باعتباري كاتبا. ومن خلال تجربتي في مجال الكتابة في فضاء الإنترنت، لمست بدهشة الإقبال الكبير على تصفح المواقع الأدبية والتفاعل معها بحماس والمشاركة الايجابية الكبيرة فيها؛ وهذا يفسر انتشار ما يسمى بالمنتديات الأدبية على شبكة الإنترنت التي أصبحت تشكل تجمعات مجتمعية حقيقية، أجمل ما فيها أنها مفتوحة للجميع، وتستقطب الآلاف من الأقلام والمواهب العربية الشابة بل والمحترفة أيضا. وجود كل هذا في ظل ما نشهده من عزوف عن الكتاب التقليدي، والشكوى المستمرة من تدني نسبة القراءة في الوطن العربي، يدل على أن هناك تغيرا كبيرا طرأ في توجه الأجيال الحديثة من القرّاء، وعلينا أن ننتبه لهذا التغير وان نتعامل معه بذكاء.
منذ سنوات شاركت في عدد كبير من المنتديات الأدبية، وفي الإشراف على العديد منها، وهي تجربة رائعة أفادتني كثيرا، وتعرفت خلالها على أدباء حقيقيين لم تكن لتتاح لهم فرصة الظهور لولا هذه المواقع. ثم قمت بتأسيس منتديات أوراق الثقافية بمساعدة أصدقاء ومبدعين من دول عربية مختلفة، حاولنا خلاله إيجاد موقع أدبي عربي حر بمعنى الكلمة. حيث عملية التسجيل والانتساب للمنتدى وعملية الكتابة تتم فورا ودون انتظار موافقة المشرفين الذين يقتصر دورهم على استبعاد المشاركات التي قد تسيء لأمتنا، وأخلاقنا. وبصدق ورغم هذه الحرية المطلقة لم نضطر حتى الآن لحذف أي موضوع، فهذه تجربة تدل على أن الحرية جديرة بأن تطبق وان تحترم. صحيح أن موقعنا تعرّض لأكثر من هجوم، وتم شطبه أكثر من مرة من جهات أو أشخاص تخيفهم الحرية وتخيفهم الكلمة الحرة، لكننا كنا نعيد بناء الموقع ونستمر من جديد.
مجلة أوراق الثقافية مثال آخر لما يمكن أن تقدمه لنا تكنولوجيا النشر الحديث والإنترنت من إمكانيات، فهي مجلة شهرية تصدر منذ عدة أشهر ويحررها مبدعون من دول مختلفة، لم يسبق لهم أن التقوا، لكن تجمعهم أوراق الموقع الأدبي الذي استطاع رغم عمره الزمني القصير أن يستقطب الكثير من الأدباء الكبار، وعشرات الآلاف من القرّاء الذين يتابعونه باستمرار ويرسلون إليه بمشاركاتهم وآرائهم.
وأود الإشارة هنا إلى مشروع أدبي آخر، وهو مشروع كبير بطموحه، حديث بنشأته. أتشرف لأن أكون جزءاً منه وهو "مجلة حيفا لنا"، وهي مجلة ثقافية فكرية تصدر عن تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين، وأتوقع لها مستقبلاً كبيراً في عالم النشر الأدبي والثقافي الإلكتروني.
بالطبع، هناك أيضاً العشرات وربما المئات من المواقع الأدبية العربية على شبكة الإنترنت التي تحظى بنجاح يفوق أحيانا النجاح الذي تحظى به الكثير من المجلات أو الصحف الأدبية الورقية. وهي قضية ينبغي أن يتنبه لها العديد من الأدباء والمبدعين العرب الذين ما زالوا يتوجسون خيفة من هذا القادم الإلكتروني المذهل "الإنترنت". فالعديد من هؤلاء لا يزالون خائفين من الغوص في بحره الواسع، وهنا فإنني أنصحهم بالإقدام على تجاوز عقدة خوفهم والاستفادة من هذه النافذة الكونية قبل أن يتجاوزهم الزمن
ماذا عن قراءاتك الآن؟

حاليا أتابع باهتمام الأدب الشبابي الحديث، الذي يتشكل بأشكال جديدة وجميلة ومذهلة. وأقوم بإعادة دراسة التجربة الإبداعية المذهلة لسعد
الله ونوس، الذي أرى انه يستحق المزيد من الدراسة والاهتمام
ماذا عن جديدك الإبداعي؟


إضافة لما أنشره في موقعي الشخصي، ومجلة أوراق، وغيرها من المواقع الأدبية الإلكترونية، أعمل الآن على تجميع بعض قصصي وقصائدي المتناثرة هنا وهناك، وأفكر بنشرها في كتب جديدة. وصدر لي مؤخراً مجموعة قصصية للأطفال بعنوان: "جزيرة الطيور"، تولت نشرها الدائرة الثقافية في أمانة عمان الكبرى.